يدفع التهديد الروسي المتزايد ضد أوروبا، خاصة بعد العملية العسكرية في أوكرانيا، العديد من البلدان الأوروبية للبحث عن طرق جديدة لتعزيز أمنها. ما دفع كلا من السويد وفنلندا لطلب عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وبخلاف أعضاء الناتو الآخرين، صرحت تركيا عن عدم رغبتها بالموافقة على عضوية هذين البلدين في الحلف، ما لم يتم وقف دعمهما لتنظيم “واي بي جي YPG” (ذارع بي كي كي الإرهابي في سوريا)، وبالتالي عزم أنقرة على استخدام حق النقض ضد انضمامهما إلى الحلف.
وبالنظر إلى الشروط التي تفرضها دول الناتو لعضوية الدول الأخرى في الحلف، نرى أنها تنسجم مع المبررات التركية، لاسيما مع استمرار تهديد “واي بي جي” للأمن القومي التركي.
عمدت التنظيم إلى استغلال حالة الفراغ في السلطة في سوريا والعراق لإنشاء ممر على امتداد الحدود في جنوب تركيا، ما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي التركي.
وفي هذا الإطار، ترى أنقرة عدم إمكانية فتح أبواب الناتو أمام دولٍ تقدم دعمًا لتنظيمات تشكل خطرًا على الأمن القومي لتركيا، خاصة أن هذا الدعم يتناقض مع مبدأ الحلف المتمثل في أن الدول الأعضاء تدافع عن بعضها البعض ضد التهديدات الخارجية.
كما أن أنقرة تعتبر توسيع حدود الناتو بضم فنلندا والسويد، سوف يؤدي إلى زيادة التهديدات الأمنية المتبادلة وبالتالي زيادة التوترات بين روسيا وحلف الناتو.
– تاريخ استخدام حق النقض في الناتو
وبحسب المادة 10 من معاهدة حلف شمال الأطلسي، أي معاهدة تأسيس الناتو، “يجوز للأطراف بالإجماع دعوة أي دولة أوروبية قادرة على تطوير مبادئ هذه المعاهدة، والمساهمة في أمن المنطقة، للانضمام الى الناتو”. وبسبب التأكيد على “الإجماع”، تحول حق النقض الممنوح للدول الأعضاء إلى مبدأ راسخ، يمنح أي عضو حق رفض دخول أي بلد إلى الناتو، وبالتالي وقف عملية الانضمام.
وعبر التاريخ، استخدمت الدول الأعضاء في الناتو حق النقض لأسباب مختلفة، فلم يتم قبول طلبات تركيا واليونان للانضمام إلى عضوية الناتو لأسباب تتعلق بموقعهما الجغرافي، إلاّ أن انضمام إيطاليا فيما بعد للحلف، شكل أرضية مناسبة لعضوية تركيا واليونان في الناتو.
وفي عملية إعادة فرنسا، التي تركت الجناح العسكري لحلف شمال الأطلسي عام 1966، حالت الإدارة الأمريكية لفترة طويلة دون عودة باريس إلى الحلف، حتى عام 2009.
وفي عملية انضمام شمال مقدونيا إلى الحلف، استخدمت اليونان حق النقض لفترة طويلة لمنع انضمامها، مشيرة إلى أن اسم مقدونيا “لم يكن شرعيًا لأسباب تاريخية وثقافية ويتوجب تغييره”. وعلى خلفية ذلك، قامت مقدونيا بتحديث اسمها إلى “شمال مقدونيا”، ثم تم قبول ضمها إلى الحلف فيما بعد.
وحول انضمام أوكرانيا إلى الناتو، عارضت المجر، إحدى الدول الأعضاء في الناتو، عملية انضمامها إلى الحلف، متذرعة بفشل كييف في تلبية مطالب الأقلية المجرية التي تعيش في أوكرانيا.
من ناحية أخرى، لم تكتمل عملية عضوية البوسنة والهرسك في الناتو لفترة طويلة بسبب موقف كرواتيا من قانون الانتخابات في البوسنة. وفي فبراير/ شباط 2022، صرح الرئيس الكرواتي زوران ميلانوفيتش صراحةً أن “البوسنة والهرسك لا يمكن أن تصبح أبدًا عضوًا في الناتو” دون موافقة كرواتيا.
وبالنظر إلى الدول الأعضاء التي استخدمت حق النقض، نرى أن معظمها استخدم هذا الحق حتى في قضايا عادية لا تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي، فيما تستخدم تركيا هذا الحق بناءً على موقف يقوم على أسس مشروعة.
– مطالب تركيا المشروعة
عندما طرحت عضوية السويد وفنلندا في حلف الناتو أمام الرأي العام، أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صراحةً عن عدم تفضيله دخول الدولتين المذكورتين حلف الناتو، بحكم أن الأخير عبارة عن منظمة أمنية، مشيرًا أن البلدين المذكورين “يدعمان منظمات إرهابية” ويفرضان عقوبات على تركيا.
وبالمثل، أشار وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو إلى ضرورة معالجة مخاوف تركيا، لافتًا أن ردود الفعل التركية تنسجم مع المادة الخامسة من اتفاقية تأسيس الناتو.
وبحسب المادة المذكورة، ففي حال وقوع هجوم على أي من الدول الأعضاء، يتم اعتبار هذا الهجوم اعتداء ضد جميع الدول الأعضاء في الناتو، وبذلك تم تطوير مبدأ الدفاع الجماعي بين الأعضاء على هذا الأساس.
يمكننا القول إذن إن أحد الأسباب الرئيسية لموقف أنقرة الأكثر تشددًا تجاه السويد، هو اتهامات موجهة لها بالسماح لتنظيم “بي واي دي PYD” (الجناح السياسي لواي بي جي بسوريا) بافتتاح مكتب له في العاصمة ستوكهولم منذ أبريل/ نيسان 2016.
بالإضافة إلى ذلك، السماح لأنصار التنظيم المذكور وأذرعه بإجراء مظاهرات ومسيرات في جميع أنحاء البلاد، وهو ما يجعل ردة فعل أنقرة أشد، لاسيما بعد إجراء وزيرة الخارجية السويدية آن ليندي، في 29 مايو/ أيار 2021، لقاءً عبر الإنترنت مع الجناح السياسي لما يسمى بـ “قوات سوريا الديمقراطية” ورئيسة “مجلس سوريا الديمقراطية” إلهام أحمد، حيث كشفت عن اللقاء المذكور نسرين عبد الله إحدى قيادات “بي كي كي” في البرلمان السويدي.
من ناحية أخرى، على الرغم من أن أنشطة المنظمات الإرهابية في فنلندا أقل نسبيًا، إلا أن السلطات المحلية لا تمنع تنظيم مظاهرات لأنصار التنظيم وتدرج تلك التحركات في إطار “حرية التعبير”.
وعليه، تطالب أنقرة بإنهاء أنشطة “بي كا كا” والتنظيمات الرديفة له في البلدين المذكورين بشكل دائم، ورفع العقوبات الاستراتيجية المفروضة على تركيا، وإعادة دمج أنقرة في برنامج الطائرات المقاتلة (F-35).
** احتمال زيادة التوترات الإقليمية
من المحتمل أن يلعب موقف تركيا السلبي تجاه عضوية فنلندا والسويد في حلف الناتو دورًا وقائيًا يساهم في منع تصعيد التوترات على الساحة الدولية.
ولابد من الإشارة إلى أن التهديد الروسي المتزايد في المنطقة يساهم في تقريب العديد من الدول من الناتو. على سبيل المثال؛ أيد 36 بالمائة من السويديين عضوية الناتو في عام 2019، إلاّ أن هذه النسبة وصلت إلى 44 بالمائة بعد العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا.
وفي المقابل، فإن ضم فنلندا، التي لها حدود برية بطول 1340 كيلومترًا مع روسيا، والسويد، التي لها حدود بحرية مع موسكو، إلى حلف الناتو، في هذه الأيام التي تشهد فيها أوروبا حربا روسية على أوكرانيا، قد يخلق صراعات أمنية جديدة ويساهم في إذكاء التوتر القائم.